في البلاد البعيدة، استفاق أميرٌ من الأُمراء على ضجّة إعلاميّة تّتهمه بسرقة الملايين المُمَلْينة. كان من الطّبيعي أن يتأثّر الأمير تأثُّراً شديداً بهذا الخبر الذي عُمِّمَ على وسائل الإعلام في تلك البلاد وأحدث شكّاً وعثاراً لِما للأمير من مكانة ورِفعة، ووصل الخبر إلى بلده الأُمّ وإلى أمير الأمراء الذي عيّنه أميراً. وبنتيجة هذا الإتّهام الذي اعتبره الأمير جائراً ومُجحِفاً بحقّه وهو الأمين الكريم، اهتّزت شوارب الإمارة التي يملِك عليها واضطربت، وراح المُغالون والسّماسرة المُستفيدون من حُكم الأمير، ولاحِسو الأعتاب والمتملّقون والمُداهنون من أثرياء الإمارة، يَهوجون ويَموجون ويُهيّجون الإمارة استنكاراً واستهجاناً، وكيف لا وشرف الإمارة من شرف الأمير! وبالطّبع، وعلى الرّغم من الضّرر المعنوي الكبير الذي لَحقَ بالإمارة التي يرأسها هذا الأمير ومن الشّك الذي سبّبه لأهلِها، لَم يتدخّل أمير الأمراء ويضعه في التّصرّف ويحجر عليه ويمنعه من ممارسة مهامّه في العلَن ريثما تنجلي الحقائق وتهدأ الأمور، ولم يضع له مُحقِّقاً يُحقّق معه في صحّة الموضوع، ولَم يُرسله إلى المحاكم حتّى إذا ما ثبتت براءته أعاده أميراً على الإمارة، بل افترض قرينة البراءة وزكّاه وبرّره وأبقاه أميراً على إمارته، مُتنعِماً هو وحاشيته بالحماية الإلهيّة الحاضرة غُبّ الطّلب، لتكون إلى جانب الأمراء في رعايتهم لإماراتهم.
وفي الإمارة نفسها في تلك البلاد البعيدة، استفاق مأمورٌ صغير على خبرٍ يتّهمه بما اتُّهِم به الأمير الآمر. كان من الطّبيعي أن يتأثّر المأمور تأثُّراً شديداً لهذا الخبر الذي عُمِّمَ على وسائل الإعلام نفسها في تلك البلاد البعيدة، ووصل منها إلى بلده الأُمّ، وإلى أسماع أمير الأمراء الذي استشاط غضباً! ومَن اتّهم الأمير اتّهم المّأمور، ولكنّ أحداً من الإمارة لَم يُكَلِّف نفسه عناء التّضامن مع المأمور والدّفاع عنه، ولا حتّى الذين أمضى حياته في خدمتهم، ولا حتّى الأمير نفسه ولا أمير الأمراء. واعتبر الأمير أنّ في الأمر شَكاً وعثاراً وإساءة لشرف الإمارة ولأهلها، فعمّمَ على الإمارة فرماناً قضى بوضع المأمور في التّصرّف، وهو ما جرّم المأمور من دون وجه حقّ، وبِمنعه من ممارسة وظيفته ومن الظّهور في العَلن حتّى إشعار آخر يُحدِّده هو بحصافته بعد تبيان الحقائق. والمُفارقة أنّ الأمير الذي لَم يرضَ لنفسه بأن يُحقّق معه ويُساق إلى المحاكم لتبرئة ذاته كونه الحاكم باسم الله، الطّاهر والمُذَكّى، وضع للمأمور مُحقِّقاً وذهب به إلى المحاكم، وضغط عليه في كافّة الإتّجاهات ليُركِعه، وتركه فريسة الألم والإهمال وبرّر فعله هذا بالغيرة على المأمور وخيره، وخير الإمارة.
خاف الأمير مرّة أولى على رأسه ومكانته عندما اتُّهم بعدم الأمانة، فحرَّك الإمارة كلّها رفضاً واستهجاناً. وخاف مرّة ثانيّة على رأسه ومكانته عندما اتُّهِم المأمور بِما اتُّهم به هو، فنكّل بالمأمور وأبعده عن وظيفته، تملّقاً للرأي العامّ، وعَزله في البعيد لكي يوفيَ آخر فِلسٍ عليه. للأسف الشّديد، الأمير أميرا والمأمور مأمورا، وشرف الواحد دون شرف الآخر... ولكن إلى متى ستبقى الحال على ما هي عليه؟.
ولست أدري لِماذا أتذكّر في هذا السّياق، مَثَل العبد المَديون الذي لَم يستبدَّ به سيّده لأنه لَم يوفه ما عليه من دين كبير، ولكنّه عندما خرج من عند سيّده ذهب فاستبدَّ برفيقه لأنّه لَم يوفه القليل الذي عليه، وطرحه في السّجن ليُوفي آخر فِلس(متى18: 28-30). ربّما لأن في القصّتين وجه شبه! فلو أيقَن هذا الأمير ما معنى أنْ يفعل للمأمور ما يُريد من أمير الأُمراء أن يفعل له، لَما كان فعل بالمأمور ما لَم يُرده لنفسه، بل كان افترض أوّلاً قرينة البراءة كما افترضها أمير الأمراء له، وتعاطى معه على الأساس.
فإلى الأمير المالك سعيداً في البلاد البعيدة: قدّم نفسك أولاً إلى المحكمة ليُحقَّق معك في ما اتُّهِمت به من جُرم، ثم عُد، بعد ذلك، فأرسل مأمورك الصّغير ليُحقّق معه، لأنّك بفعلِك هذا، وبه فقط، تكون قد جعلت من نفسك قدوةً ومثالاً للنّزاهة وللإستقامة وللعدالة في إمارتك، وأمام مأموريك.
هذه ليست قصّة من وحي الخيال... هذه قصّة حقيقيّة لا زالت أحداثها جارية إلى الآن في البلاد البعيدة... والسّلام.